![]() |
✍️ أقصوصة درامية — تأليف: فاروق الغمراوي |
كان اليوم عادي جدًا… الشمس طالعة بنور باهت كأنها زهقت من الشروق، والشارع ماشي بنفس الإيقاع البارد اللي بيكرر نفسه كل يوم.
فاروق كان ماشي بخطوات بطيئة، شايل شنطته القديمة اللي حافظت شكل إيده من كتر ما شالها، داخل على المحل الصغير اللي بيتعامل معاه من سنين.
سلّم وهو بيبتسم، نفس الابتسامة اللي بقت شبه قناع على وشه — لا هي فرح ولا حزن، مجرد محاولة للبقاء وسط الناس.
قال للراجل:
> "هات البضاعة يا عم، وخلينا نحاسب بسرعة، مش فاضل وقت."
ضحك الراجل وقال وهو بيعد الفلوس:
> "هو إيه يا فاروق، دايمًا مستعجل؟ شكلك هتموت قريب!"
كلمة قالها بهزار، لكن دخلت جواه كأنها نغمة حنينة من زمن تاني.
ابتسم وقال في نفسه:
> "لو تعرف إنك ريحتني… يمكن تكون أول كلمة صادقة اتقالت لي من سنين."
مد المبلغ بإيده وقال بهدوء:
> "خد حسابك يا عم، يمكن المرة الجاية ما يكونش في فرصة."
سابه ومشي.
الهواء كان ساكت، لكن جواه دوشة — مش دوشة خوف، بل دوشة راحة.
الناس حواليه رايحة جاية، كل واحد بيجري كأنه بيهرب من حاجة مش عارفها، وهو الوحيد اللي واقف، مش عايز يهرب من حاجة، بالعكس… مشتاق لها.
وصل بيته.
فتح الباب ببطء كأنه بيخش مكان مقدّس.
السكوت جوّه كان تقيل، لكنه مريح، زي حضن أم قديمة.
قعد على الكرسي اللي جنب الشباك، نفس الكرسي اللي شافه في كل حالاته:
بيضحك، بيعيط، بينام وهو صاحي، وبيصحى وهو ميت من التعب.
فتح الشباك، ودخلت نسمة خفيفة لمست وشه كأنها بتحييه للمرة الأخيرة.
بص بعيد… بعيد جدًا، كأنه بيشوف عمره كله في لقطة واحدة.
وقال بهمس لنفسه:
> "أنا مش زعلان، ولا خايف…
يمكن دي أول مرة أحس إن قلبي مرتاح.
يمكن الموت مش نهاية… يمكن هو بداية من نوع تاني، باب كنت بدور عليه من زمان، ومش لاقيه."
سكت شوية، وبعدين ضحك ضحكة صغيرة، صافية.
> "الناس بتخاف من اللي جاي، وأنا حاسس إن اللي جاي خلاص هيريّحني."
قام شرب شوية مية، قعد تاني.
مد إيده على صدره، كأنه بيطمن على النبض اللي تعب من كتر الوجع، وقال:
> "كفاية كده… خلاص."
في اللحظة دي، حسّ إن جسمه خفيف… مش تعبان ولا موجوع، كأنه بيتحرر من حمْل قديم.
خياله شاف طريق طويل، ماشي فيه وهو حافي، بس الأرض ناعمة تحت رجليه.
الهوى هناك ريحته مختلفة، دافية، وفي آخر الطريق… نور مش أبيض، لكنه مطمّن، زي حضن أم كانت مستنياه على بابها.
ابتسم وقال بصوت مسموع للمرة الأخيرة:
> "خلاص."
وسكت كل شيء.
الساعة وقفت، والنسمة سكنت، حتى الشارع برّه بطل دوشة.
بس الهدوء المرة دي… ماكانش فراق.
كان سلام.
ولما الصبح طلع،
الشباك كان لسه مفتوح،
والكرسي لسه فاضي،
بس ملامحه… كانت مبتسمة.
---
🌿
أحيانًا ما بيبقاش الموت نهاية،
بيكون راحة… ونقطة صدق في آخر سطر طويل من التعب.
في لحظة صفا نادرة، ممكن الإنسان يتصالح مع فكرة الرحيل،
مش كاستسلام، لكن كنوع من السلام الداخلي… كأنه بيقول لنفسه: "كفاية كده".
(حقوق النشر محفوظة للشاعر والكاتب فاروق الغمراوي)