محمد... خدام العيلة

0

 

محمد... خدام العيله.
✍️ أقصوصة درامية — تأليف: فاروق الغمراوي

من وهو صغير، كان محمد بيصحى على صوتهم قبل ما يصحى على صوت نفسه.

“هات المية يا محمد... روح للسّباك يا محمد... خلّص المشوار يا محمد.”

كلمة "يا محمد" كانت دايمًا جاية بعدها أمر، أو صوت عالي، أو سخرية.

ماحدش قالها يوم بحنية، ماحدش ناداه عشان يسمع صوته، الكل بيناديه عشان يسمعوا أوامرهم.


كبر محمد، بس مكانته ما كبرتش.

في البيت كان دايمًا “الخدام”، وفي الشارع بقى “اللي بيشتغل في بيتهم”.

حتى الناس بره، لما يشوفوه، يشوفوا في عينه خضوع متعلم، مطبوع فيه من كتر الذل، فيصدقوا إنهم يقدروا يعاملوه زيه.

اتربى على الطاعة، لحد ما نسِي إزاي يعترض، نسِي صوته، نسِي نفسه.


كان أحيانًا يحاول... يحلم بس.

يقول: "هبدأ مشروع صغير، أو أتعلم صنعة، أو أعمل حاجة ليا."

لكن كل مرة كان يقف قدامهم يقول كده، يلاقى الضحكة اللي بتكسر القلب قبل ما توصل للأذن.

“انت تعمل إيه يا محمد؟ روح يا ابني شوف المكنسة فين.”

ضحكهم ماكنش عادي... كان سخرية متعمدة، فيها متعة وهم بيكسروه، كأنهم بيغرسوا في صدره فكرة إنه عمره ما هيساوي حاجة.


ومع الأيام، محمد ما بقاش يضحك...

ولا يرد...

ولا حتى يحلم.

بدأ ياخد دواء اكتئاب، الطبيب سماه "مريض نفسي"، بس الحقيقة إنه ماكانش مريض...

كان مجروح.

مجروح من أقرب الناس ليه، اللي علموه إن قيمته أقل من ظله، وإن وجوده مجرد وظيفة لخدمتهم.


كل يوم كان بيبص في المراية، ومابيشوفش نفسه.

بيشوف صورة شاحبة، عينين مطفية، شفايف ساكته كأنها اتعهدت ما تنطقش.

يقول لنفسه: "أنا ليه موجود؟"

بس مايعرفش يجاوب.

لأن محدش علمه معنى الوجود، كل اللي علموه معنى “الوجوب” — لازم تطيع، لازم تشتغل، لازم تسكت.


وفي مرة...

لما حاول يقول "لأ"، الدنيا قامت.

أخته الكبيرة صرخت فيه قدام الناس:


> "ده محمد يا جماعة... ده مجنون، سيبوه فحاله!"

الناس ضحكت، وهو ضحك معاهم... غصب عنه.

ضحكته كانت شبه صرخة مكتومة، فيها وجع سنين.




من يومها، ما بقاش يحاول يثبت العكس.

بقى ساكت، دايمًا ساكت.

يعيش يومه وهو بيخدمهم، وبالليل ينام على سطرين بيكتبهم في كشكول صغير تحت المرتبة:


> “أنا مش مجنون...

أنا اتجننت منكم.”




مرت سنين، والبيت فضل زي ما هو...

بس محمد اتغير.

وشوشهم ما بقتش تخوفه زي الأول، ولا كلماتهم بتكسره.

لأن جوّاه خلاص ما بقاش في حاجة تتكسر.


وفي ليلة من الليالي، اختفى.

ماسيبش غير الكشكول، مفتوح على آخر صفحة مكتوب فيها:


> “كنتوا بتقولوا عليا خدام...

بس عمري ما خدت منكم حاجة.

كنتوا بتقولوا عليا مجنون...

بس يمكن الجنون أرحم منكم.”




من يومها، محدش شاف محمد...

اختفى كأنه عمره ما كان.

لكن الحكاية ما انتهتش، لأن في كل بيت فيه قهر،

ولسه فيه حد بيتظلم،

بيطلع صوته من بعيد يشبه صوته...

كأنه بيرجع يسأل من جوه كل واحد اتكسر:


> "هو أنا فعلاً كنت مجنون؟

ولا كنت إنسان بيتوجع ومحدش فهمه؟"




(حقوق النشر محفوظة للشاعر والكاتب فاروق الغمراوي)


إرسال تعليق

0 تعليقات
* Please Don't Spam Here. All the Comments are Reviewed by Admin.
إرسال تعليق (0)

#buttons=( أقبل ! ) #days=(20)

يستخدم موقعنا ملفات تعريف الارتباط لتعزيز تجربتك. لمعرفة المزيد
Accept !