![]() |
عيلة وسخة – السجن اليومي بقلم: فاروق الغمراوي |
٦ الصبح
أنا أصحى قبل الشمس… ما بنامش أصلاً.
الشقة واسعة بس خانقة.
اللمبة الصغيرة في أوضة أمي منورة زي نور زنزانة.
أمي نايمة على السرير، جسمها ضعيف بس صوتها بيطلع كل شوية يشكي.
أقوم أجيب لها ميه، أديها دواها، أظبط المخدة تحت راسها.
القطط في الصالة، مواءها متقطع زي أنين طفل جعان.
أنا أمشي وسطهم كأني شبح، مافيش حد يشوفني.
٨ الصبح
أمي صوتها يعلو من الأوضة:
"يا ابني… أنا تعبانة… شوف لي دكتور… ابعت لي حد يأخذني."
أقول لها: "حاضر يا أمي" وأنا عارف إن مافيش حد غيري.
أبص على التليفون، أبعت لأخواتي: "أمكم تعبانة"…
مافيش رد.
ولا حتى "عاملين إيه".
ولا حد عايز ييجي ولا ياخدها ولا يشوفها.
هي تقول "ابعت لي حد" بس حد فين؟ كلهم اختفوا.
٩ الصبح
الأخ الكبير في غرفته–استوديو.
الغرفة دي أصلًا جزء من الشقة بس هو قافل عليها كأنها مملكته.
عايش لنفسه بس.
ياكل لنفسه، يشرب لنفسه، ينام لنفسه.
ولا شغل ولا مسؤولية ولا سؤال عن أمّه اللي على السرير بتتوجع كل شوية.
بابه مقفول… بس كل صوت من عنده واصل لوداني: طبق بيتحط، باب بيتقفل، نفسه وهو بيتقلب على السرير.
هو مرتاح… وأنا محبوس في باقي الشقة زي سجن.
١ الظهر
أمي تصرخ تاني: "يا ابني… شوف لي دكتور… أنا مش قادرة."
أقوم أجري عليها، قلبي بيغلي.
أقول لنفسي: "أنا اترفدت عشان أكون معاها، مديون لآخر قرش، محدش حس ولا سأل."
ولا حد عايزني ابقى كويس أصلًا.
مش كل بُق يدعيلك بيحبك… الدعاء عندهم عادة، مش حب.
أبعت لهم فيديو لأمهم وهي على السرير يمكن يصحوا.
ولا كلمة، ولا رد… كأن اللي في الصورة مش أمهم.
أضحك على نفسي جوّه… شايل الحمل عنهم، وهم واخدينه كأنه حق مكتسب.
٤ العصر
الشقة كلها هدوء مخنوق.
مواء القطط بقى أوطى بس مازال زي أنين في وداني.
أمي نايمة على السرير بس كل شوية تقول: "أنا تعبانة… شوف لي دكتور… ابعت لي حد يأخذني."
وأنا أقعد قدامها أحس إني محبوس في مسلسل واحد بيتعاد كل يوم.
أنا بقيت متعصب… بقيت بشخط من القهر اللي جوه قلبي.
مش كره فيها… بس كره في العيشة اللي حبستني في الزنزانة دي.
كره في اليوم اللي ضيعت فيه عمري خادم.
كره في الناس اللي شايفة حياتي واجب مش تضحية.
٨ بالليل
الأخ الكبير لسه في استوديوه، الباب مقفول، والبيت كله على صدري.
أمي لسه على السرير، بتقول نفس الجملة: "أنا تعبانة… شوف لي دكتور… ابعت لي حد يأخذني."
وأنا بقيت حاسس إني مدفون حيّ.
أنا شايل، مديون، مسجون.
أنا اللي اتحبست في قبو الحياة، وهما برا بيقولوا: "ده واجبه."
هم كلهم ماتوا بالنسبة لي، وأنا لسه عايش… شايل عنهم، شايل أمّي، شايل الشقة دي.
مش عايزيني أفتح بقي.
١٢ بالليل
الليل يخنق أكتر من النهار.
البيت بقى سجن كبير… الغرفة اللي انا فيها زي قبو صغير مرتاح فيه، وباقي الشقة زنزانة أنا محبوس فيها.
القطط ساكتة بس ريحتها في كل حتة.
أمي نايمة… صوت نفسها متقطع.
أنا واقف في نص الصالة… حاسس الجدران قريبة مني… السقف نازل على صدري.
أقول في سري:
"أنا مش عايش… أنا مدفون حي."
أقعد على الأرض… إيدي على وشي.
أقول:
"يمكن ربنا شايف… يمكن يوم ما هيفك السجن ده عنّي.
بس لغاية ما اليوم ده ييجي… أنا هنا… في السجن… مع العيلة الوسخة دي."