عبقرية الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط فى السينما المصرية



 من واقع يتشكل نسيجه الاجتماعى من مسلمين وأقباط، ظهرت الأفلام السينمائية التي تروى قصص أبطالها الرئيسيين الأقباط، أسوة بالقصص السينمائية التي تسرد حكايات المسلمين.


وفى أفلام أخرى يتلاحم المسلمون مع أقرانهم المسيحيين للمشاركة فى الأعياد الدينية والمناسبات الخاصة، وهو ما يتجلى بوضوح فى أفلام بعينها، مثل: “ضحك ولعب وجد وحب” للمخرج طارق التلمسانى عام 1993، وأيضًا فيلم “البوسطجى” لحسين كمال عام 1968، و”للحب قصة أخيرة” 1985 ثم “سيداتى آنساتى” لرأفت الميهى 1990، و”التحويلة” للمخرجة أمالى بهنسى.


فى عام 1965 أخرج حسن الإمام “الراهبة”، و”شفيقة القبطية” 1963، و”بديعة مصابنى” 1975، وقبل ذلك قدّم يوسف شاهين القصة التاريخية بين عيسى العوّام ولويزا فى فيلم “الناصر صلاح الدين” عام 1963.


وفى العَقدين الماضيين تتضح حقيقة النسيج الاجتماعى المصري فى فيلم: “بحب السيما”، و”جنة الشياطين”، و”لا مؤاخذة”، و”حسن ومرقص”، ثم “يوم وليلة” الذي تم إنتاجه عام 2019.


ويتفاوت ظهور الهُويَّة القبطية أو إخفاؤها لاعتبارات اجتماعية عامّة من فيلم لآخر، ففى بعضها لا يؤكد السيناريو على هُويَّة الأبطال، وإن كانت أسماؤهم تشير للهُويّتين معًا، كما فى فيلم “البوسطجى”: “جميلة” و”خليل” و”مريم” و”وصيفة”، فى حين كان النص الأدبى الأصلى للأديب يحيى حقى فى رواية “دماء وطين” قد أشار إلى هُويَّة جميلة وأسرتها، بل تستحلف “جميلة” عَمَّها بالنَّبى مَرّتين فى المَشهد 66 من السيناريو المنشور: “ياللا والنّبى يا عمّتى نروح”، وتكرر مرّة أخرى: “والنّبى يا عمّة.. عشان خاطرى“. 


كما خلت جدران بيت المعلم سلامة، كما يشير السيناريو المكتوب، من أى إشارة إلى الهُويَّة الدينية للأسرة، وأيضًا لـ«خليل»، ولكن الأسماء على لسان “خليل” تتحمّل التأويل، فهو فى المَشهد 69 يشير إلى أن “نجيب أفندى واصف جوز أختى إللى فى إسكندرية كان مواعدنى بوظيفة”، وواصف اسم قبطى بقدر ما هو اسم مسلم فى صعيد مصر.


وفى أفلام أخرى تتم الإشارة إلى الهُويَّة القبطية بكل وضوح، مثل “شفيقة القبطية”، و”بديعة مصابنى” (وهى أسماء حقيقية تاريخية)، ومثل الخالة دُميانة فى “للحب قصة أخيرة”، و”ماما تريز” صاحبة المنزل فى “سيداتى آنساتى”، وهناك بالطبع إشارة واضحة إلى ديانة كل من “مها” و”فريد” فى فيلم “ضحك ولعب وجد وحب”، من خلال اللوحات المُعَلقة على جدران منزل الفتاة، وكان عيسى العوّام قبطيّا مصريّا فى فيلم “الناصر صلاح الدين”، بالإضافة إلى الأماكن التي تدور فيها أحداث أفلام أخرى، مثل “الراهبة“.





فى فيلم “لا مؤاخذة” إنتاج 2014 فإننا أمام صبيا قبطيا يلتحق بفصل فى مدرسة إعدادية كل مَن فيه مسلمون، ورغم التعصب الملحوظ؛ فإن التلاميذ يؤيدونه فى معركته الأخيرة ضد زميله المسلم الذي يستغل عضلاته بافتراء واضح.


 كما ظهرت شخصيات قبطية عديدة فى أفلام مصرية تشير إلى الوحدة الوطنية فى مصر، مثل فيلم “بين القصرين”، وأيضًا “الجزاء” لـ«عبدالرحمن الخميسى»، الذي تدور أحداثه إبان ثورة الشعب ضد الإنجليز فى عام 1919، والشخصية نفسها فى فيلم “الزواج على الطريقة الحديثة” للمخرج كمال كريم، وأيضًا شخصية الجنود الأقباط الذين يدفعون حياتهم من أجل أوطانهم فى الحروب ضد إسرائيل فى أفلام “الرصاصة لاتزال فى جيبى” و”أبناء الصمت” و”العمر لحظة” وغيرها. 


وتُظهر الكثير من القصص أن هذه الوحدة الوطنية ضاربة فى عُمق التاريخ، ويجسّدها فيلم “الناصر صلاح الدين” الذي أظهَر أن الحملة القادمة من أوروبا باسم الصليب لم تمنع عيسى العوّام من الدفاع عن وطنه ضد الغزاة، مَهما كانت هُويّتهم الدينية.


وفى مَشهد يشير إلى التاريخ الحديث التأمَ فيه أبناءُ الهلال والصليب فى مواجهة جنود الاحتلال الإنجليزى، سقط فهمى أحمد عبدالجواد وزملاؤه الأقباط شهداءً برصاص جنود الحتلال فى فيلم “بين القصرين”، الذي قاد فيه رجل أزهرى وقس مظاهرة وطنية تنادى بالوحدة الوطنية، وفى التاريخ الأكثر حداثة تُظهر الأفلام السابقة التي تحدثت عن حرب أكتوبر المجيدة اشتراك المسلمين والأقباط معًا فى تحرير الأرض واسترداد الكرامة.


ويدافع ضابط مسلمٌ عن سجين قبطى تم اعتقاله بالخطأ فى فيلم “التحويلة” للمخرجة أمالى بهنسى 1996، ودفع كل منهما ثمَن موقفه عندما أطلق أحد الجنود النيران على الاثنين، وانسالت دماؤهما فى نفس المجرى تعبيرًا عن قوة التلاحم.


 وقدمت السينما قصص الحب بين الأقباط شأنهم شأن المسلمين، وبنفس المفردات، ولعل فيلمَى “شفيقة القبطية” و”الراهبة” أبرز مثالين على ذلك، وفى حين تدور أحداث الفيلم الأول فى مصر خلال الربع الأول من القرن العشرين، تدور أحداث الثانى فى لبنان، ولكن بلهجة عاميّة مصريّة. 


وليس هناك علاقة بين قصة فيلم “شفيقة القبطية”، والرواية التي نشرها جليل البندارى قبل عامَين من عرضه، فحسب مقال نشره محمد السيد شوشة فى مجلة “دنيا الفن” عام 1962 فإن “البندارى” استوحَى الفيلم من قصة كتبها “شوشة” عن راقصة اسمها “توحيدة” مزَج “البندارى” أحداثًا عاشتها فى الفيلم، لكن السيناريو الذي كتبه محمد مصطفى سامى، اختلف تمامًا عن الواقع وعن النص الأدبى.


وقد سرَد الفيلمُ قصة قبطية فى المقام الأول، وأغلب أبطالها العشاق وغيرهم من الأقباط، دون أى إشارة إلى أن قصة حب قد اشتعلت بين شخصيتين من ديانتين مختلفتين كما ورد فى النص الأدبى، وهو نفس ما حدث فى فيلم “الراهبة” لنفس المخرج ولنفس كاتب السيناريو، وقد جسّدت فيه هند رستم شخصية راقصة، ومن المرجّح أن تكون القصة مقتبسة من رواية فرنسية كعادة النصوص التي يكتبها محمد مصطفى سامى لـ«حسن الإمام».


وفى الفيلمَين؛ خصوصًا الأخير، صَوَّر حسن الإمام شعائر الرهبنة بالتفصيل، وهناك فيلم ثالث للمخرج نفسه كتبه أيضًا محمد مصطفى سامى، حول نفس قصص الحب يحمل اسم الفنانة الشهيرة “بديعة مصابنى”، وهى امرأة لبنانية جاءت إلى مصر  للعمل فى فرقة نجيب الريحانى، ثم تتزوج منه ويصنع منها نجمة ذات شهرة عريضة، لكنها بعد انفصالهما كزوجَين أسّسَت فرقتها الخاصة التي انهارت على يد الراقصة الجديدة ببا عز الدين، ما دفع “بديعة” للعودة إلى لبنان بعد أن أصابها الفقر وضيق الحال.


وفى مذكرات حسن الإمام التي نشرتها مجلة “الشبكة” يَذكر أن أحمد الحاروفى، وهو متعهد حفلات قديم قام بشراء مذكرات بديعة مصابنى، وعرضها عليها وكان متحمسًا لإخراجها جدّا، وبالفعل أسند دور البطولة إلى نادية الجندى ثم إلى نادية لطفى، بعد أن دب خلاف بين الأولى والمنتج.


وكما كان هناك صليب على صدر هدى فى “الراهبة”، يظهر أيضًا على صدر “بديعة مصابنى” فى مشهد انفصالها عن الريحانى فى وجود القس الذي كان يحاول الإصلاح بينهما وفشل، والمعروف أن الأقباط المصريين لا يتم بينهم الطلاق بهذه السهولة، ولكن لأن بديعة لبنانية فإنه يتم بناءً على طلب أحد الطرفين أو كليهما.





ولعل المشهد الأخير من فيلم “حسن ومرقص” جاء مُعبرًا عن التآلف الشديد بين أسرتين مسيحية ومسلمة، رب الأولى قس اضطر للتخفى فى هُويَّة أخرى، والثانى شيخ مسجد مسلم تخفّى أيضًا، وتتماسك الأسرتان معًا فى مواجهة المتطرفين، وتمتزج دماؤهما مثلما حدث من قبل فى أكثر من فيلم منها “التحويلة“.


وبرزت الأماكن المقدسة الإسلامية والقبطية فى تلك الأفلام، بما لها من قدسية عالية لدَى الطرفين، سواء فى مصر أو فى لبنان، ويتضح هذا من علاقة هدى فى فيلم “الراهبة” بتمثال السيدة العذراء فوق الجبل، وهى أيضًا تقوم بمسح أرضية الكنيسة دليل على إجلالها للمكان الذي وهبت له كل حياتها، وتبدو معالم الكنيسة مهيبة بأجواء الرهبة والخشوع خلال أحداث الفيلم، وقد امتزج ظهور الكنائس من الداخل والخارج بموسيقى كنسية مهيبة ذات دلالات خاصة فى كل من “شفيقة القبطية ” و “الراهبة“.


فى الأفلام المصرية التي يتحاب فيها شابٌ مسلمٌ وفتاةٌ مسيحيةٌ تكون الأحداث حريصة تمامًا على ألا تقع الفتاة فى الخطيئة، لكن تحدث فى بعض القصص التي صَوّرتها السينما بين عاشقين من نفس الديانة، ولا يكون أمام الاثنين سوى الزواج، ولم تكن الهُويَّة القبطية ظاهرة فى فيلم “البوسطجى” الذي سبق الإشارة إليه، والذي أخطأت فيه “جميلة” مع “خليل“.


وفى فيلم “ضحك ولعب وجد وحب” رأينا قبطيَّيْن “مها وفريد” والأولى تلميذة تقع فى حب الثانى، ما أدى لسقوطها فى الخطيئة، وكان من المحال أن يتزوجا نظرًا لصغر سنّهما، وعندما تضيق السُّبُل بفريد يلجأ إلى “عائشة”، حبيبة الطلاب، وعاشقة “أدهم” كى تجد حلًا، وفى البداية تستضيف مها فى بيتها ثم تطلب والدتها لتحاورها وتكشف لها الموقف، وتستدعى عائشة “إش إش” طبيبًا ليقوم بإجهاض الفتاة، وحسب نهاية الفيلم ومن خلال بضعة سطور مكتوبة على الشاشة نعرف أن فريد تزوج من مها بعد تخرجه، وإنه تم تجنيده فى الجيش واستشهد فى حرب أكتوبر، والفيلم مأخوذ عن تجربة ذاتية للمخرج طارق التلمسانى، أملاها على كاتب السيناريو مجدى أحمد على، أى أننا أمام شخصيات حقيقية مثل “بديعة مصابنى” و “شفيقة القبطية”، وإن كانت السينما قد قامت بتغيير الملامح كما شاء لها.


ومن أغرب العلاقات ما رأيناه فى فيلم”يوم وليلة”، الذي يروى خروج طالبة محجبة فى أحد المعاهد مع زميلها المسيحى – دون تعبير عن هويته- ليتنزها طوال ساعات النهار دون أن يتبادلا كلمة غزَل واحدة، وتُظهر الأحداث شقيقة هذا الشاب التي هى امرأة مُعَلقة دون طلاق، وتعمل موظفة، فى صورة مشابهة لامرأة مسيجية فى فيلم “واحد صفر” إخراج كاملة أبو ذكرى، إنتاج 2009، والذي تهدد فيه المرأة بتغيير ملتها كى تحصل على الطلاق.


 ويعنى ما سبق أن المصريين يتوحدون فى مشاكلهم العامّة، وإن كان لكل منهم مشكلته الخاصة بشكل منفرد.



مصادر :

سينماتوغراف



Post a Comment

Previous Post Next Post