عيون الغريب_بقلم: فاروق الغمراوي |
كان "فاروق " يتجول في أزقة المدينة التي يعرفها منذ طفولته، لكن شيئًا ما تغيّر فجأة. المباني التي نشأ بينها بدت غريبة، كأنها رسمت حديثًا على مسرح لم يره من قبل. المارة الذين كان يلتقيهم يوميًا، والباعة الذين ينادونه باسمه، أصبحوا وجوهًا بلا ملامح، مجرد ظلال تتحرك بلا معنى.
توقف وسط الشارع، ونظر حوله. صوت السيارات، ضحكات الأطفال، صخب الباعة الجائلين، كل ذلك بدا له كضجيج لا يخصّه. همس لنفسه بصوت مرتجف:
"صبحت غريب ومستغرب وجود الناس، ومش لاقي لاحساسي ده أي أساس، غير إني خلاص من الدنيا دي استكفيت."
الغربة عن كل شيء
حين عاد إلى منزله في تلك الليلة، لم يشعر بالألفة التي كانت تملأ قلبه حين يعبر هذا الباب. الأثاث، الجدران، الأضواء الخافتة، كلها كانت تشبه تفاصيل منزله، لكنها كانت خالية من روحه. حتى حين دخل غرفته، شعر وكأنه غريب في بيت لا يعرفه.
جلس على طرف سريره، يحدق في الجدار المقابل. همهم بصوت خافت:
"إيه اللي حصل؟ أنا فين؟"
لكنه لم يكن ينتظر إجابة، فهو لم يعد يثق بأن هناك إجابات لأي شيء.
الغربة عن الناس
في اليوم التالي، قرر أن يذهب إلى المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه مع أصدقائه. حين دخل، وجدهم جالسين كعادتهم، يضحكون ويتبادلون الأحاديث. جلس بينهم، لكنه شعر وكأنه جالس مع غرباء. كانت كلماتهم تتردد في أذنيه كصدى بعيد، ضحكاتهم كانت جافة كأنها خالية من الحياة.
"مالك يا فاروق؟ ساكت كده ليه؟" سأله أحدهم.
ابتسم فاروق ابتسامة خفيفة وقال:
"مش عارف... حاسس إني مش هنا."
ضحكوا ظانّين أنه يمزح، لكنه كان جادًا. في تلك اللحظة، أدرك أن حتى أصدقاؤه لم يعودوا كما كانوا. أو ربما هو الذي لم يعد كما كان.
الغربة عن الزمن والمكان
مع كل يوم يمر، كان شعور الغربة يتعمق داخله. الشوارع التي يعرفها بدت وكأنها تنكمش وتضيق حوله. الزمن أصبح غريبًا أيضًا. الساعات تمضي ببطء، وكأنها تتعمد أن تتركه يواجه كل لحظة بشعورها الثقيل.
ذات ليلة، وقف عاصم في شرفته ينظر إلى المدينة التي تمتد أمامه. كان المشهد مألوفًا، لكنه شعر وكأنه يراه لأول مرة. تساءل بصوت خافت:
"هل أنا اللي اتغيرت؟ ولا كل ده كان غريب وأنا بس مكنتش شايف؟"
الغربة عن النفس
أكثر ما كان يؤلمه هو إحساسه بأنه غريب حتى عن نفسه. كان ينظر في المرآة، فلا يرى سوى وجه يعرفه بالكاد. ملامحه المعتادة كانت موجودة، لكن عيناه بدتا له خاويتين، وكأن روحه قد غادرت.
جلس في إحدى الليالي وحيدًا، وفتح دفترًا كان يحتفظ به منذ صغره. قرأ ذكرياته القديمة، كلماته التي كتبها بحماس وأحلام كبيرة. أغلق الدفتر فجأة، ورماه بعيدًا. لم يعد يستطيع أن يتعرف على ذلك الطفل الذي كان يكتب فيه.
ذروة الغربة
ذات يوم، قرر فاروق أن يختبر إحساسه. ذهب إلى مكان طفولته، الحديقة التي كان يلعب فيها مع أصدقائه. وقف هناك، ينظر إلى الأرجوحة التي اعتاد أن يتأرجح عليها، لكن الحديقة بدت مهجورة. حتى الذكريات نفسها بدت بعيدة، وكأنها تنتمي لشخص آخر.
جلس على الأرجوحة، وأخذ يتأرجح ببطء. أغلق عينيه، محاولًا استدعاء شعورٍ قديم. لكنه لم يجد شيئًا. فقط فراغ، وصمت ثقيل.
فتح عينيه فجأة، ونظر حوله. كان يشعر أن العالم كله يتحرك من حوله، لكنه متوقف في مكانه. ليس في الحديقة، بل في حياته بأكملها.
النهاية المفتوحة
عاد فاروق إلى منزله تلك الليلة، وأطفأ كل الأنوار. جلس في الظلام، مستندًا إلى الحائط. كان عقله مليئًا بالأسئلة، لكن قلبه كان فارغًا من أي إجابة.
قال لنفسه:
"الغريب مش بيحتاج مكان جديد... الغريب محتاج يلاقي نفسه."
لكنه لم يكن واثقًا إن كان يمكنه أن يجد نفسه يومًا، أم أن هذه الغربة ستظل تطارده، بلا نهاية.