كتب د. قاسم المحبشي
افتتح عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان هذا الكتاب بالحديث عن فكرة السيولة والتميع من خلال شرح الأبعاد الرمزية لعنوان الكتاب موضوع المُراجعة ؛ حيث أشار إلى النظرة الفلسفية للشر بشكل عام، وكيف أن هذا الموضوع قد تم تناوله وتبريره منذ مُدة طويلة انطلاقا من مُقاربتين مُتعارضتين.
المُقاربة الأولى، وهي المقاربة التيولوجية، وفيها يستحضر باومان النظرة المسيحية المتولدة عنها، والتي تنظر إلى الشر في الحياة كمُجرد معصية أو نقيصة يُمكن ترويضها . أما المُقاربة الثانية فترتبط بموقف المانوية، التي ترى بأن الخير والشر يُمثلان واقعين متوازيين ومتصارعين بشكل دائم.
بعد هذا التجوال التاريخي السريع في المتون الفكرية للفلاسفة، وفي الحقول الأدبية المُشبعة بالروح المانوية التي تجسدت في العديد من الأعمال الرواية، كمؤلف ميخائيل بولجاكوف المُعنون بــ"المعلم ومارجاريتا". ينتقل باومان للوقوف على وضعية العالم المُعاصر، ولُبين مراميه من وراء من وراء اختيار "الشر السائل" كعنوان للكتاب ؛ حيث أثار العديد من الأسئلة العميقة الموجهة لموضوع الكتابة من قبيل :" ماذا يعني مفهوم الشر السائل؟ كيف يمكن فهمه على أحسن وجه اليوم، عندما تتألف ظواهر كثيرة من سمات وخصائص متعارضة؟ فالشر السائل يرتدي ثوب الخير والحب، على العكس مما يمكن أن نسمّيه الشر الصلب القائم على رؤية اجتماعية ترى الأمور من خلال لونين الأبيض والأسود، حيث يمكننا بسهولة تحديد ماهية الشر في واقعنا الاجتماعي والسياسي. بل إن الشر السائل يستعرض نفسه كأنه تقدم الحياة المحايد والمتجرد من الأهواء، وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة والتغير الاجتماعي بما ينطوي عليه من نسيان وفقدان للذاكرة الأخلاقية. كما أن الشر السائل يرتدي عباءة غياب البدائل وامتناعها، ويصبح المواطن مستهلكاً، ويخفي الحياد القيمي حقيقة الانسحاب".
ويستدعي باومان نصوص أدبية لها راهينيتها حتى يستطيع أن يضع جسرا للتفاهم بينه وبين القُراء، حيث يستند على ما دونه الروائي البريطاني جورج أوريل في روايته الشهيرة لسنة 1984، والتي برز فيها الشر متمثلا في السلطة الديكتاتورية التي ارتدت لحاف الأخ الأكبر، حتى تؤثر على المخيال الرمزي للأفراد وتستبدل أحاسيس النفور والخوف والمواجهة بمشاعر الحب والود والعاطفة.
وتجدر الإشارة إلى أن مُفكرنا يُميز بين نمطين من الشر، الأول وهو الشر الصلب الجامد الذي تم التعبير عنه في الأدبيات الكلاسيكية خاصة الروائية منها مثل رواية "فاوست" لغوته التي تقف في مُقدمة هاته الأعمال، والثاني هو الشر السائل المتميع الذي يتمظهر بأشكال مختلفة في الوقت الراهن. فــ" الشر الصُلب كان شرا مُلتزما بلا أخلاق، ومُخلصا لقضية بكل نشاط، مع وعد صادق بالعدالة الاجتماعية والمُساواة في نهاية الزمان. وأما الشر السائل فقد ابتكرته نظرية الإغواء وفك الارتباط. ففي حين أن بروميثيوس والشيطان، كما سنرى في أثناء هذا الحوار، كان بطلين من أبطال التدمير والانتفاضة والثورة، فإن أبطال الشر السائل يسعون إلى تجريد الإنسانية من أحلامها ومشروعاتها البديلة وقى الرفض والمُمانعة".
بـــداية موت الخصـــوصية
ينتقل باومان للوقوف على مظاهر الشر السائل في الوقت الراهن، من خلال ربطه بالتطور التكنولوجي والمعلوماتي، الذي ساهم في تطوير الشر وفي تطوير وسائل نشره، كما هو الشأن بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي، التي يُمكن اعتبارها أدوات لتعميم الشر والخطر القاتل، نظرا لما تُتيحه للأفراد من إمكانية التعبير عن نزعاتهم التدميرية والشريرة بكبسة سر. إلى جانب تغييرها لمفهوم الحياة الخاصة.
سؤال الخُصوصية الذي أثاره المؤلفان وجدا جزءا من إجابته في ما دونته سارة إيجو في مؤلفاتها الشهيرة التي صدرت في الآونة الأخيرة والتي قاربت فيها وضعية الإنسان الأمريكي بدءا من "نهاية الخصوصية" و"استراق النظر" و"لا ملاذ" مُرورا بـ"الخُصوصية في خطر" و "الطريق إلى الأخ الأكبر" وُصولا إلى" أُمة واحدة تحت المُراقبة" و "أنا أعرف ما تكون وأرى ما تفعل" وهي كُلها أعمال تعكس وضعية الانحطاط القيمي التي أضحى يتخبط فيها المُجتمع الأمريكي حيث أصبحت الحياة الخاصة على مرأى الجميع وفقدت قيمتها الرمزية والأخلاقية.
ويُؤكد باومان في هذا الإطار على أن العصر الذي كان في حاجة إلى أجهزة استخباراتية مُكثفة للكشف عن الأسرار الخاصة بالأفراد قد ولى وانتهى ؛ حيث أصبح الإنسان المُعاصر يتلذذ بعرض تفاصيل حياته على مواقع التواصل الاجتماعي مُقدما بذلك خدمة لصناع القرار ولأجهزة الاستخبارات التي لم تعد تتكبد عناء البحث عن الأسرار لأن هذه الأخيرة أصبحت تُعرض في واضحة النهار، ولا يتطلب البحث عنها أي مجهود.
ولعل أبرز مظاهر سُيولة الشر هو ما أطلق عليه مُفكرنا مُسمى "العمى الأخلاقي"، حيث تسود القيم الأحادية المُنغلقة والمُتحكم فيها من طرف الدولة بالشكل الذي يشل قدرات الأفراد ويساهم في إقصائهم إذا لم ينصاعوا لقرارات الدولة البيروقراطية، وهذا يُذكرنا في الحقيقة بما كتبه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عندما اعتبر بأن الخاصية الجوهرية المُميزة للدولة هي مُمارسة العُنف المشروع حيث قال في هذا السياق بأن " العُنف ليس بطبيعة الحال إلا الوسيلة الوحيدة للدولة، بدون شك، ولكنه وسيلتها الخاصة. وفي أيامنا هذه تُعتبر العلاقة بين الدولة والعنف حميمية جدا". إذ أن كل من يُحاول أن يُناقش سياسة الدولة يُقابل بالعنف والرفض من طرف الأجهزة البيروقراطية.
ويُشير باومان إلى أن المظاهر المُستهلكة للتحرر والاستقلالية في المجتمع الغربي هي ضرب من التحكم والسيطرة كما هو الحال بالنسبة لجلسات الاستشفاء الخاصة بمرضى السرطان وحلقات تلفزيون الواقع الذي يعرض الحياة الطبيعة للأفراد التي كانت تُعتبر في السابق أمرا شخصيا.
وعلى هذا الأساس يُقرر المؤلفان بأن "مجتمع الإنترنت هو مجتمع يستحوذ عليه الخوف، وصار مكاناً مثالياً لكل ما يتعلق بصناعة الخوف والإثارة الُممنهجة للذعر والهلع، إنه يبرز ويكشف صعود التكنوقراطية المرتدية قناع الديموقراطية. وفي الوقت نفسه، فإن مجتمع الإنترنت والمجال العام يُغذيان تلك المكونات الضرورية للتكنوقراطية ويرعانها باعتبارها أداتية ومنفصلة عن القيمة في كل تجلّياتها. وفي تلك الثقافة التي يسودها الخوف الدائم، وإثارة الذعر والهلع، والتعديل، والتغير الدائم، تتحول الضحالة إلى ميزة لا نقيصة". وساهم هذا الوضع كذلك في فقدان ما يُسميه عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركهايم ببوصلة التوجه الأخلاقي ولكن على المُستوى الكوني، حيث سقط العالم في الأنومياAnomie ما دام يُرجح كفة المصلحة والمنفعة على حساب القيم الإنسانية المُشتركة. وهُنا يُحاكم باومان موقف الدول الغربية من المجاعات والأوبئة والحروب التي تقع في العالم الثالث والتي تعكس في جوهرها مُسمى "الحياة عديمة القيمة". من خلال طرح الأسئلة التالية " كم عدد الضحايا والمآسي التي نحتاجها حتى نفيق؟ ما العدد الذي لا بد أن تصل إليه أعداد الضحايا حتى نشغل الحس الأخلاقي المُعطل" هل فعلا أصبحنا نتعامل مع القيم الإنسانية بالمبدأ القائل "إن موت شخص واحد إنما هو مآساة، وأما موت ملايين الناس فهو عملية إحصائية".
من دس السُم في التُفاحة وأسال الشر؟
يُؤرخ صاحبنا لبروز النزعة ما بعد الحداثية للشر، بحدث معاهدة صُلح وستفاليا سنة 1648م التي وضعت حدا لسنوات طويلة من الصراع والشقاق بين دول أوروبا. حيث تم بعد هذا الصُلح تهميش البعد الديني والمذهبي وحل مكانه البعد القومي وبدأت المؤشرات الأولى لبروز الدولة الوطنية المتحكمة في مُواطنيها استنادا على الفكرة القائلة بأن "الشعوب على أديان سادتها". إذ تم التخلي عن الدين لصالح فكرة الأمة التي احتكرت البنية الذهنية والفكرية للإنسان الأوروبي وطبعت أحكامه الأخلاقية والقيمية. ولعل أبرز تجسيد للتأكيد على شرعية الدولة/الأمة التقابل الذي شهده التاريخ بين المُعسكر الليبرالي الديمقراطي بزعامة أمريكا، والمُعسكر الشيوعي البيروقراطي بقيادة الاتحاد السوفياتي.
أشار باومان إلى أن كلا من المعسكرين كان يسعى إلى بسط سيطرته على العالم بأسره، ولكن حالة التوازن التي كانت قائمة كانت تحول دون انفراد أحدهما بالهيمنة المطلقة. ولعل هذا السبب هو الذي جعله يُشدد على أن سقوط جدار برلين، كان اللحظة الفارقة في دخول غمار الحداثة السائلة بكل مظاهرها ومفرداتها، التي يعتبر الشر أحدها. إذ ساهم سقوط ذلك الجدار في "فتح أراضي كانت محظورة أمام شبح الليبرالية الجديدة، وأوحى بفكرة نهاية التاريخ وانتشارها على طريقة فرانسيس فوكوياما... وهكذا فإن المنتصر، شبح الليبرالية الجديدة، وجد نفسه وحيداً في كوكب الأرض، من دون تحدٍ، ومن دون اضطرار إلى بذل جهد كبير في السيطرة على بدائله، أو احتوائها أو تغييرها، تلك البدائل التي لا تظهر بوضوح إلا بغيابها الوشيك. وعلى الأقل هذا ما اعتقده أنبياء الليبيرالية الجديدة ورسلها".
نُلاحظ مما سبق أن فيلسوفنا يبني كل آراءه عن الشر السائل استنادا على فكرة اللابديل، التي أدت إلى بلورة مجموعة من العمليات الإجرائية التي تتباين في المُحتوى والمعنى على ما هو مُتجلي. فالسياسة مثلا لا تُشكل إلا جزءا من مظاهر سيولة العصر. لذلك لا يستغرب من عُزوف الناس عن الاهتمام بالشأن السياسي مُمارسة ونقاشا، لأنهم يُدركون حقيقة التلاعب الذي يُحيط بهم "حيث يعي الجميع أن الساسة يتظاهرون بأنهم يحكمون، بينما أصحاب السلطة الاقتصادية يتظاهرون بأنهم حكام، وحتى تكتمل اللعبة فإن الناس يدفعون أنفسهم مرة كل بضع سنين إلى لجان الانتخابات، ويتظاهرون بأنهم مواطنون". فكل ما يحيط بالإنسان من تنظيمات ما هو إلا مظاهر زائفة، إذ أن سياسة اللابديل تضطهد نفوس البشر، وتفرض عليهم معايير دقيقة لا يُمكن العيش خارجها، ذلك أن الواقع المعيش هو الذي يمسك في الأخير بأفكارنا وأفعالنا في يد من حديد، عندما يرسم حدوداً صارمة حول خيالنا، ويضع حدوداً لإرادتنا، وهو يفعل ذلك بتقسيم خياراتنا إلى خيارات معقولة وأخرى خيالية، بل إنه أيضاً يحط من قدر خياراتنا ويمحوها عندما يتعلق الأمر برؤى البدائل للوضع القائم وعزمنا على تحقيقها.
وقد ولد هذا الوضع المُضطرب الذي يعيشه الإنسان المُعاصر حسب باومان نزعة للحنين إلى الماضي، ويتجلى ذلك في طبيعة الحقل اللغوي المُتداول في الفضاء العام، حيث يتغنى المرء بأمجاد الماضي وبحمولته الرمزية.
كيف اقتحم الشر السائل حميمية الحب؟
يستمر باومان في تشريحه لمفهوم الشر السائل، بإثارة سؤال جريئ، يرتبط بالسبب الذي قد يوجه إنسان العالم المعاصر للقيام بالشعائر الدينية التي تدعو إلى ضرورة نشر الحب وتبادله في الفضاء العام. ويبرز باومان، من وراء إثارة هذا السؤال، أن هذا الرهان لن يتأتى إلا بعد أن يتيقن الشخص من احترام وحب جيرانه له أولاً، قبل أن يُقدم على حبهم. لذلك لا يُمكن أن نُصنف الحب ضمن القيم الكونية المجردة من كل منفعة، لأنه في الواقع مصلحة ومنفعة تبادلية، وبالتالي لا يمكن أن يتحول هذا الأمر الديني الأخلاقي إلى ممارسة عملية إلا بعد أن يأخذ شكله التبادلي التفاعلي.
من هنا يخلص الكاتب إلى مسألة بليغة الأهمية، وهي أن ضرورة توفر تبادلية أخلاقية، تشترط في الآن نفسه وجود حالة من المساواة بين الأطراف المتبادلة. لأن المساواة في الاحترام والحب هي المدخل الأساسي لبناء العلاقات الإنسانية الخيرة والفاضلة، كما أن المساواة هي الرسالة التي تنشدها جميع الأديان.
حيث يرى أن هذه القيمة مفقودة في عالم اليوم، إذ أن نظرة واحدة سريعة على أعداد اللاجئين الهاربين من بلاد المجاعات والحروب الأهلية والفقر والمرض، تكشف بجلاء أنهم في حقيقة الأمر ضحايا العولمة والحداثة، إذ أن بلادهم بوصفها مسرحا لكل أحداث العنف والدمار ليست سوى بلاد التحقت للتو بعصر الحداثة السائلة بكل ما يتضمنه هذا الأخير من انحطاط أخلاقي وقيمي على جميع المُستويات.
بعد ذلك يتطرق مُفكرنا للعلاقة القائمة بين الأخلاق والمجتمع، ليبرز أن خاصية المجتمع من حيث كونه شكلاً من أشكال التجمع البشري، قد أفضت إلى بروز وسطوة إرادة جمعية محددة استبدت بالإرادات الفردية على شاكلة الضمير الجمعي الذي تحدث عنه إميل دوركهايم، غير أنه ارتبط في هذه الحالة بمجتمعات الشر السائل عوض مجتمعات الرمزية السائلة.
الحداثة وإعادة فتح صندوق باندورا
يُطلق صندوق بندورا في الميثولوجيا اليونانية القديمة، على الصندوق الذي خرجت منه كل المخاوف والأحقاد والضغائن والخصومات إلى العالم عندما تم فتحه. حيث يرى فيلسوفنا أن الحداثة السائلة قد فتحت صندوق بندورا الذي كان مغلقاً، وأن المخاوف التي خرجت منه قد تشبثت بنفوسنا بشكل كبير، فإنسان اليوم يخترقه قلق مبهم اتجاه كل ما هو قادم، ورغم أن الخوف من المجهول عادة مترسخة في الضمير الجمعي للإنسان منذ قدم الزمن، إلا إنها لم تبلغ أبدا هذه الدرجة من الشدة. ونقرأ بخصوص هذا الأمر قول المؤلف: "إن الأرض التي يفترض أن يقف عليها مستقبلنا، إنما هي أرض رخوة بكل تأكيد، تماماً مثل وظائفنا والشركات التي تعرضها، وشركاء حياتنا وشبكات أصدقائنا، ومكانتنا في المجتمع ككل، وما يصاحبها من احترام للذات وثقة بالنفس".
إن الوعد الدائم بالازدهار والتحرر، ذلك الحلم الذي كانت تنشده الحداثة في صورتها الجديدة السائلة، كان من المفترض أن يُقلل من شقاء الناس ويقودهم إلى الطمأنينة، ولكنه عوض عن ذلك قذف بهم إلى المزيد من العنف وأجج السباق المحموم من أجل ضمان مقعد في لعبة الكراسي الموسيقية المستمرة. لكن المُعضلة الأساسية هي أن الأفراد المشاركين في هذه اللعبة، لم يعد مقدورهم الخروج منها، أو تغيير قواعدها وأحكامها وتنظيماتها، هم فقط يلهثون في السباق عاجزين عن السيطرة عليه أو تغييره أو التأثير فيه.
أشار باومان في هذا الإطار ظاهرة جديرة بالدراسة، وهي تلك التي سماها بـإضافة الأقفال، فلما كان الإنسان المعاصر لا يُمكنه الانسحاب من السباق، ولا أن يأمن من شر وخطر المنافسة مع غيره من المتسابقين، فإنه قام بتركيب عدد من الأقفال على الأبواب التي يخشى من المجهول الموجود خلفها. فاجتناب التدخين مثلا من الممكن أن يحمي من خطر الإصابة ببعض الأمراض القاتلة كالسرطان، والتقليل من تناول الوجبات الجاهزة يُقلل من مخاطر الإصابة بمرض تصلّب الشرايين والسمنة. وبنفس الكيفية يحمي الأغنياء منازلهم وأملاكهم وثرواتهم من عيون اللصوص وأياديهم عبر فرق متخصصة في محاربة السرقة. المشكلة أن كل تلك الأقفال تخلق شعوراً مُضاعفا بالقلق والتوتر، وتحول دون الاستمتاع الكامل بالقدرات التي يملكها الأفراد، وتجعل العالم يظهر كفضاء للصراع والخوف كأننا أمام حالة حرب للكل ضد الكل كما تحدث عنها توماس هوبس في كتابه اللوفياتان.
ومن هنا تسود بعض الظواهر المركبة المتناقضة، فشركات الحراسة والسيارات المصفحة مثلاً هي أكثر المؤسسات التي تستنفع بترهيب الناس من اللصوص، وشركات السجائر دأبت على أن تُحذر في إعلاناتها المدخنين من خطورة استهلاك منتجاتها وأثرها السلبي على صحتهم. وحتى الدول والأنظمة السياسية أضحت تستند في مشروعيتها على نجاحها في استغلال مخاوف الأفراد من المجهول. فكل نظام يقوم بالترويج لنفسه، من خلال استحضار الظواهر السلبية المنتشرة في الدول الأخرى الأقل تمدنا، تلك الظواهر التي تعكس الفوضى والاضطراب والوحشية، في محاولة من تلك الأنظمة لإكراه الناس على تزكية مشاريعهم والتصويت لهم في المناسبات الانتخابية المقبلة.
عهد الحداثة السائلة، الذي تعيشه حالياً الدول الغربية، تنتقل آثاره وظواهره بشكل سريع إلى المجتمعات والدول الفقيرة في أفريقيا وآسيا، وذلك بعد أن تم تصدير نظرية الخوف إلى دول العالم الثالث التي تقتدي بالغرب في سياساتها وتوجهاتها. فالخوف من التخلف والخوف من الدخول في دائرة النسيان، هو الذي دفع الكثير من الدول الأفريقية كناميبيا مثلا للتخلي عن نمط الاقتصاد الزراعي الريفي، وتعويضه بنمط صناعي مدني، من دون تخطيط مُسبق ومن دون أخذ بنية وهوية المجتمع بعين الاعتبار، وهو ما ترتب عنه في آخر المطاف فشل كبير. ففي البادية التي كانت مركزا للاقتصاد الناميبي تدهور الاقتصاد الزراعي، في الوقت الذي لم يتطور فيه الاقتصاد الصناعي والعمراني عاصمة البلد.
ما مغزى كل هذا؟
نحن حسب باومان أمام فشل مُركب بفعل النزعة الذاتية نحو الحداثة السائلة، والتي لم تكن لتتأتى إلا بعد أن تم نهج سياسة الإشهار والترويج للأخطار التي يُمكن أن تُصيب المجتمعات النامية إذا لم تلتحق بركب الحداثة السائلة وقطارها الذي يتجه بسرعة وإصرار نحو ذلك المجهول الموجود خلف الأبواب المُغلقة.