دور الفم في التمثيل






الجزء الأول

سعدت بردود الفعل ومحاولات الإجابة ، رغم سخرية البعض والتي أري أنها طابع مصري أصيل .
تحدثنا فيما سبق عن دور الأذن وسوف نتحدث الآن عن دور الفم ( وهو بالقطع ليس للبوس فقط !! )
ان دور الأذن هو الإستقبال ، استقبال الأصوات والكلمات ، أما دور الفم فهو الإرسال ، إرسال الأصوات والكلمات ، إلا  أن دور الفم لا يقتصر علي هذا فقط ، فله أيضا دور مرئي ، فالفم يبتسم تعبيرا عن السعادة ، ويفتح تعبيرا عن الدهشة ، وتزم الشفتين تعبيرا عن كتم الغيظ وغير ذلك ، وقد ينفرد الفم بهذه التعبيرات في اللقطات الصامتة ، أو تصاحب إرساله للأصوات والكلمات .
ان دور الفم الأساسي إذن هو إنتاج الكلام او بمعني ادق إنتاج الألفاظ ، إلا أن الفم هو في الحقيقة ، آخر مرحلة في عملية الإنتاج هذه ، ولفهم هذا الدور سنحاول شرح عملية إنتاج الكلام من بدايتها .
تبدأ عملية إنتاج الكلام في المخ اولا ، وهي عملية تتطلب التنسيق الدقيق بين العديد من مناطق المخ ، لن نذكر بعضها تيسيرا وتسهيلا للفهم  ، هو أمر غاية في التعقيد ولازلنا لا نعرف عنه الكثير ، خاصة وهو يحدث بسرعة فائقة لا تتجاوز أجزاء معدودة من الف جزء من الثانية الواحدة .
اولا : تبدأ هذه العملية عبر منطقة :
 ( فيرنيك Wernike's area نسبة إلي كارل فيرنيك طبيب الأعصاب الالماني ، وتوجد في القسم الخلفي من الفص الصدغي بالمخ ، وفيها يتم اولا إستقبال الكلام الوارد ، سواء كان بصريا بالقراءة او سمعيا ، وفهم معناه ، ثم وضع تصور للمعني اللغوي لما نود أن نرد به وايضا تصور للشعور المناسب لهذا الرد .
ثانيا : عبر منطقة بروكا Broca's area  نسبة إلي الطبيب الفرنسي بيير بول بروكا ، وتوجد في الفص الأمامي في أحد جانبي المخ وغالبا ما تكون في الجانب الأيسر ، وفيها يتم إيجاد الكلمات والجمل المناسبة للمعني السابق من الحصيلة اللغوية للشخص ، وترتيب هذه الكلمات بشكل مفهوم وربطها بحروف الجر وأدوات التعريف والعطف ، ثم الدفع بها للخروج عبر القشرة الحركية وبالتنسيق مع أعضاء النطق لإخراج هذه الكلمات ، فهذه المنطقة ترتبط بالمناطق المسئولة عن التحكم في حركة الجسم وعضلات الوجه والفكين واللسان والشفتين والحنجرة وكذلك مراكز الانفعال
هي إذن المنطقة المنوط بها إصدار أمر تنفيذ عملية الكلام .
تعمل هاتين المنطقتين معا حيث تتعامل الأولي مع الكلام الوارد ، بينما تتعامل الثانية مع الكلام الصادر .
كيف يتم التنفيذ ؟
يبدأ التنفيذ اولا بخروج الهواء من الرئتين ثم مروره بالحنجرة ، وفيها يتحول الهواء إلي أصوات منضبطة الحجم والحدة ، فالحنجرة هنا تتسبب في توليد أصوات ذات تردد أساسي معين وذات حدة معينة وذلك عن طريق اهتزاز وتوتر الاحبال الصوتية أثناء مرور الهواء عليها ، ثم تخضع هذه الأصوات للتغير أثناء مرورها  بالفم ، وذلك تبعا لوضعية اللسان والشفتين والاسنان وكذلك فتحة الحلق وسقف الحلق ، تخلق هذه الوضعيات المختلفة ألفاظ الكلام ، وذلك باحتجاز الصوت بشكل محدد ، بما فيها الأحرف الساكنة واحرف العلة .
هذا ما يتم في عملية إنتاج الكلام في الحياة ، والسؤال الآن هو كيف يتم ذلك في عملية التمثيل ؟

 الجزء الثاني 

تحدثنا في الجزء الأول عن كيفية إنتاج الكلام في الحياة وسوف نحاول هنا الحديث عن كيفية إنتاج الكلام في التمثيل .
من الواضح بداية ان منطقة ( فيرنيك ) في المخ ( راجع في ذلك الجزء الأول ) تعمل في التمثيل بشكل مختلف تماما عن عملها في الحياة ، فهي هنا تستقبل اولا النص المكتوب Text وهو نص الدور الذي سيقوم الممثل بأداءه ، وهي تستقبله بصريا ، وتحدد معناه المفترض من خلال توجيهات المؤلف والمخرج وتحليل الشخصية والموقف الدرامي .
هي إذن لا تضع من نفسها تصورا للمعني اللغوي لما سيقال كما هو الحال في الحياة ، فهذا المعني محدد بشكل مسبق ، وكذلك الانفعال المصاحب له .
كذلك لا تعمل منطقة ( بروكا ) في المخ ( راجع في ذلك الجزء الأول ) كما تعمل في الحياة ، فالكلمات والجمل هنا محددة تحديدا دقيقا ومعطاه من قبل المؤلف ، ولابد من حفظها بواسطة الذاكرة ، وعلي ذلك ترسلها منطقة ( بروكا ) إلي مناطق الذاكرة بالمخ مع الأمر : مطلوب الحفظ .
مناطق وأنواع الذاكرة في المخ :
الذاكرة هي قدرة من قدرات المخ ، تخزن فيها المعلومات وتحفظ ويتم استرجاعها وقت الحاجة إليها  ومراكزها متعددة وتوجد في الفص الصدغي من قشرة المخ ، وهناك أنواع مختلفة منها :
- ذاكرة الحواس : Sensory memory وهي تتعلق بالحواس الخمس  ، فهناك ذاكرة بصرية وسمعية وشمية ولمسية واخري متعلقة بالتذوق ، وقد تحدثنا في بوست سابق عن أهمية دورها فيما يسمي بالذاكرة الانفعالية .
- الذاكرة قصيرة المدي : Short-term memory
وهي الذاكرة العاملة وتحتوي علي المعلومات النشطة التي يستقبلها المخ وتحتفظ بها لفترة مؤقته ، إذ سرعان ما تختفي للسماح باستقبال غيرها ، فسعة هذه الذاكرة محدودة ، وهي لا تصلح في حفظ واستعادة كلمات وجمل الحوار ، رغم أن كثير من الممثلين يعتمدون عليها .
 - الذاكرة طويلة المدي :  Long-term memory
وهي تمثل المفهوم العام للذاكرة ، وقدرتها علي التخزين لا حدود لها ، يقوم المخ بتفصيل وفرز المعلومات في الذاكرة قصيرة المدي لنقل ما هو ضروري وهام منها إلي الذاكرة طويلة المدي ، ويتم جزء كبير من هذه العملية أثناء النوم ويساعد هرمون الدوبامين: Dopamine hormone  او ما يعرف بهرمون السعادة في سهولة النقل والتخزين .
إن حفظ الممثل لكلمات وجمل الدور يحتاج بلا شك إلي الذاكرة طويلة المدي ، والحفظ مهارة تكتسب بالتدريب ، وأهمية الحفظ الجيد والجيد جدا لا شك فيها ، حتي ان البعض قال ان التمثيل لا يبدأ إلا بعد التخلص من الكلام ، أي حفظه تماما ، وآخر قال إن الممثل اما ان يمثل او ان يتذكر الكلمات ، ولا شيء غير ذلك .
إن آفة الممثل الأولي هي الخوف من النسيان ، وهي آفة تصيبه بالتوتر والسرعة في نطق الكلمات ، فهو يحاول التخلص منها بسرعة خوفا من نسيانها ، وبالتالي يختفي الأداء المناسب ، والتغلب علي هذه الآفة لا سبيل له ، إلا بالحفظ الجيد وعن ظهر قلب وعن طريق الذاكرة طويلة المدي ، وهناك بعض الإرشادات التي قد تساعد علي هذا وهي :
- تكرار الجملة الأولي من جمل الحوار بصوت واضح عشرين مرة علي الاقل ثم تكرار الجملة الثانية بنفس العدد من المرات ثم تكرار الجملتين معا بنفس العدد ثم الثالثة وتكرار الثلاثة معا ، إلي اخره .
- تكرار الكلمات لعدة مرات خاصة في أوقات الراحة والهدوء ، والمرح  لزيادة إفراز هرمون الدوبامين كذلك في أوقات القيام بعمل يدوي ، وايضا قبل النوم مباشرة وبعد الاستيقاظ من النوم ، علي ان يتم ذلك في أوقات متباعدة .
- وبشكل عام يفضل الحفظ دون أداء محدد لأن الحفظ بأداء محدد سيجعل التمثيل آليا غير قابل للتغيير  .
- بالطبع يمكن للممثل تغيير بعض كلمات الدور ، علي ان يتم ذلك بالاتفاق مع المؤلف والمخرج ، وقبل أن يبدأ  في الحفظ
والآن ماذا يحدث بعد الحفظ وأثناء التمثيل ؟
أثناء التمثيل يجب أن تبدو منطقة ( بروكا ) وكأنها تعمل اي يبدو علي الممثل أنه يبحث عن الكلمات والجمل المناسبة ، ولا يبدو عليه أنه يتذكرها ، والفارق بين هذا وذاك واضح ولا يخفي علي احد ، وفي نفس الوقت تقوم منطقة ( بروكا ) بإصدار الأمر التنفيذي للحنجرة والفم بإنتاج هذه الكلمات .

تحدثنا في الجزء الاول عن عملية انتاج الكلام في الحياة وفي الجزء الثاني عن عملية انتاج الكلام في التمثيل ، ويبقي بعد ذلك الحديث عن الفارق الهام بين طبيعة الكلام في الحياة وطبيعة الكلام في التمثيل .

 الجزء الثالث


تحدثنا في الجزء الأول عن كيفية إنتاج الكلام في الحياة ، وفي الجزء الثاني عن كيفية إنتاجه في التمثيل .
وسنحاول هنا الحديث عن الفروق بين طبيعة الكلام في الحياة ، وطبيعته في التمثيل .
اولا يمكن اختصار ما سبق في الخطوات التالية :
في الحياة :
1- استقبال عن طريق الأذن او العين او كلاهما معا  .
2- فهم واستيعاب ما تم استقباله .
3 - وضع تصور للمعني اللغوي المناسب للرد ، والحالة الانفعالية المصاحبة له
4 - تحديد الكلمات والجمل المناسبة للتصور اللغوي السابق
5 - النطق بهذه الكلمات والجمل بواسطة الحنجرة والفم مع الانفعال المناسب .
في التمثيل :
1 - استقبال عن طريق العين فقط
2 - الكلمات والجمل محددة مسبقا
3 - استيعاب وتحديد المعني المقصود والحالة الانفعالية المفترضة
4 - الحفظ عن طريق الذاكرة
5 - النطق بالكلمات والجمل عن طريق الحنجرة والفم مع الانفعال المناسب
من الواضح أن المسارات مختلفة وقد تكون عكسية ، فالتمثيل يسير في مسار هو عكس مسار الحياة .
والآن إلي تحديد الفروق بينهما :
ان اول الفروق بين طبيعة الكلام في الحياة وطبيعته في التمثيل ، يكمن في الطابع الانفعالي لكل منهما ومن أين يأتي   ؟
في الحياة نجد أن الطابع الانفعالي للكلمات حقيقي وتلقائي وهو خاص بالشخص نفسه ، ويصدر عن المركز الانفعالي في المخ Aumegdala وينفذ عن طريق اهتزاز وتوتر الاحبال الصوتية في الحنجرة .
في التمثيل نجد أن الطابع الانفعالي للكلمات ، يفترض أنه حقيقي وتلقائي ولكنه مصنوع في نفس الوقت ، وهو خاص بالشخصية الدرامية لا بالممثل نفسه ، ويصدر  بمساعدة الذاكرة الانفعالية وذاكرة الحواس ووسائل اخري  كثيرة ( تم ذكر حوالي 17 وسيلة مختلفة منها في بوست سابق ) وينفذ عن طريق اهتزاز وتوتر الاحبال الصوتية .
يبدو مما سبق أن الطابع الانفعالي للكلام في التمثيل أكثر تعقيدا من الطابع الانفعالي للكلام في الحياة .
يبدو أن مشكلة التمثيل الأولي هي كيف ينطق الممثل بكلمات ذات طابع انفعالي محدد ، وهي معروفة ومحفوظة ومعدة مسبقا ، وكأنها  ليست كذلك ، أي كأنها  تأتي بايحاء اللحظة او رد فعل لها ، وبشكل تلقائي ، أي صادرة عن مراكز الكلام في المخ لا مراكز الذاكرة .
ثاني هذه الفروق يتمثل في اننا نجد الكلام في الحياة وفي معظمه ، لا ضرورة له ، فنحن نتحدث كثيرا وبما يزيد عن الحاجة ، كما أن حديثنا قابل دائما للاستدراك في حالة عدم السمع بوضوح أو عدم الفهم ، ولأننا وبشكل عام نميل إلي الكسل والاقتصاد في الطاقة ، تأتي كلماتنا في الحياة مضغمة وغير واضحة وهو ما يسمي( أكل الكلام ) اعتمادا علي ان من لا يسمعنا بوضوح يمكن له دائما أن يسأل .
اما في التمثيل فالأمر مختلف تماما ، فالكلام هنا يفترض انه ضروري ولا يمكن الاستغناء عن أي كلمة منه ، وإلا  أمكن حذفها ، وكذلك وهو الاهم غير قابل للاستدراك ، فهو يقال لمرة واحدة فقط ، ليسمع لمرة واحدة فقط ، ولذا لابد أن يكون واضحا تماما ومسموعا بشكل جيد ، مهما كان الطابع الانفعالي له .
ان التمثيل ولاشك يتطلب درجة أعلي من وضوح الألفاظ  والكلمات عما هو عليه الحال في الحياة ، هذا الوضوح يكتسبه الممثل عن طريق التدريب علي مخارج الألفاظ Phonetics وهو أحد التدريبات الأساسية ، واحد أسس التمثيل .
ولكن إلي أي مدي يجب أن يشبه الكلام في التمثيل الكلام في الحياة ؟ هل يجب أن يشبهه  تماما ، أو يتطابق معه ؟
الحقيقة إن التمثيل ليس هو الحياة ولا يجب أن يتطابق معها  ، هو مستوي أعلي منها او بمعني ادق فوقها ، هو يشبهها حقا ولكنه ليس هي ، وإلا ما كان فنا .
ان إتجاه بعض الممثلين في هذه الأيام خاصة إلي نطق الكلمات كما ينطقونها في الحياة ، ولا نسمع بوضوح ما يقولون ، بدعوي تلقائية مزعومة ، هو اتجاه يسير بفن التمثيل في مسار خاطيء ، فالتمثيل اولا واخيرا فن وحرفة وقيمته الحقيقية تكمن في وجود هذه الحرفة وفي مهارة إخفائها ، هذا لا ينفي بالطبع ضرورة  وجود التلقائية ولكنها تلقائية غير حقيقية وإنما  مصنوعة ولا يجب أن تبدو كذلك ، وهنا تتجلي مهارة الممثل .
كيف بالله عليكم نشاهد ( ممثلا ) يسمي ممثلا  ، لا نسمع ولا نفهم ما يخرج من فمه !!
أ.محمد عبد الهادي
مدرس تمثيل في معهد الفنون المسرحية


Post a Comment

Previous Post Next Post